كلمة الأستاذ الدكتور محمد السعودي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والسلام على خير عباده، محمد الصادق الأمين.
الأستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت، رئيس مجمع اللغة العربية الأردني.
الأساتذة العملاء، أعضاء مجلس مجمع اللغة العربية الأردني.
الأستاذ الدكتور فايز القيسي الأكرم، العضو العامل في مجمع اللغة العربية الأردني.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد،
فباسم الأساتذة الكبار الأجلاء وباسم هذا المجلس العلمي، الناسُ مَوتى وأهلُ العلمِ أحياء، أرحّب بك أستاذاً وعضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية الأردني. وأقدمك اليوم وأنا أعلم من هو د.فايز القيسي، كما هم الأساتذة الذين قدموك لهذه المكانة الشريفة، أعلمك في قاعة الدرس وفي المؤتمرات وفي البحوث المحكمة وفي الرسائل المناقشة وفي الشأن الإداري، أعلم فيك جِدة ثابتة ورأياً نافذاً صادقاً مؤنساً. لقد كنت في هذا كله وقّافاً أوّاباً، وكنت القريب من طلبتك بحوارك وخوفك عليهم أن يخطئوا، فكنت لا ترتضي لهم حتى الزلل، وكنت الصديق والصاحب لزملائك في جامعة مؤتة وجامعة الطفيلة التقنية وجامعة الإمارات العربية والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والجامعة الأردنية وجامعة لندن، كلّهم اتفقوا، مَن صادفت منهم، على كلمة واحدة؛ الدكتور فايز جادّ وَدود.
الأساتذة الكبار:
لقد كرّس الدكتور فايز جهده في الأدب القديم والأدب الأندلسي خاصةً، فنال أدب الرحلات والاغتراب والأدب الأندلسي في الدراسات الشرقية البريطانية وجماليات الخطاب في أحاديث ابن دريد وغيره نصيباً كبيراً من دراساته. ويُحمد للدكتور القيسي أنه من الباحثين الذين أسّسوا للنظر في النص الأدبي الأندلسي نثراً وشعراً، وهذا ما ينقصنا اليوم في دراسة أدبنا القديم، فما عادت الدراسات التاريخية حول النصوص تظهر حقيقة البنى الثقافية والحضارية لأمّتنا. ومن هذا، السرد التراثي في قصية رياض وبياض، وجماليات الخطاب السردي في مقامة محارب وادي آشي. وقد رسّخ هذا النهج في إشرافه على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراة.
وللمكان الذي عاش فيه طفولته نصيب مما كتب، فقد خصّ الحياة الثقافية في مادبا من 1900-2015م بدراسة وافية، وأشرف على أعمالها الثقافية عندما كانت مدينة للثقافة الأردنية، ولا يزال مشاركاً في الندوات العامة التي تنهض بالمجتمع وأهل الفكر والثقافة منه. وقد أسهم الدكتور فايز القيسي في إغناء مجلة مجمع اللغة العربية الأردني ببعض دراساته، وشارك في مواسمه ومشاريعه؛ وكان آخرها صيف هذا العام 2025م.
واليوم، أنت رفيق هذه الثلة المباركة من العلماء في مجمع اللغة العربية الأردني الذين ينتظرون إضافتك النوعية على أعماله وأن ترفده بهذه التجربة العميقة في خدمة اللغة العربية تأليفاً وبرمجة وترجمة وكثيراً من الدهشة. فقد قال الإمام الشافعي، رحمه الله: العلمُ صيدٌ والكتابةُ قيدُهُ. فأهلاً بك أستاذاً وأخاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
21/9/2025م.
كلمة الأستاذ الدكتور فايز القيسي
بسم الله الرحمن الرحيم
سَعادَةَ الأسْتاذِ الدُّكْتُور مُحمَّد عَدْنان البَخِيْت المُحْتَرَم
رئيسَ مجمعِ اللغةِ العَربيَّةِ الأُرْدُنِي،
السَّادةُ أعضاء مَجْلِسِ المجمَعِ الكِرَام،
يسُرُّنِي أنْ أحييكُم بِمَا أنْتُمْ أهْلٌ لَهُ مِن أحْسَنِ التَحيَّةِ وأطْيبِهَا، فالسَّلامُ عليْكُم ورحْمَةُ اللهِ وبركاتُهُ، وبعدُ، فأرْجُو أنْ تسمحوا لي بأنْ أقُولَ فِي شُكْرِ أخِيْ العزيزِ الأسْتَاذِ الدكتورِ محمد السعودي، عَلى تَقْدِيمِهِ الجَمِيْلِ لِي جَمِيْلًا، وهُو تقْديْمٌ سمَتْ به نفْسِي وعَلَتْ مَشَاعِريْ، لَقَد يسَّرَهُ اللهُ طَالِبًا مُرِيْدًا لِي فِي المَرْحَلَةِ الثَّانيَةِ مِن طلبه العِلْم فِي مُؤتةَ، ثُمَّ أسْتَاذًا زميلًا فِي جامِعَةِ الطَّفيْلةِ التِّقَنِيَّةِ، ثم صَدِيقًا وَفيًّا يَنْقُلُني إلِى سعَادَاتِكُم اليومَ أحاديثَ وأخبارًا وأعمالًا، في بيانٍ لا يُجارى في دُنيا الأدبِ، وأسلوبٍ لا يُبارَى فِي دُنيا القَوْلِ. وأرجو أنْ يكونَ مَا رَآهُ مِن أعْمَالِي زُلفَى لِي عِنْدَ اللهِ أنالُ بها رِضَاهُ. فأجْزَلَ لَك اللهُ يا أخي أبا معاذٍ، الأجرَ والمثوبةَ على طيب وفائك وحسن ظنك.
أَمَّا أَنْتُمْ، أَيُّهَا الأَسَاتِذَةُ الأَجِلَّاءُ، فَيُسْعِدُنِي أَنْ أَنْقُلَ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا أَنَّ قُدْرَتِي تَعْجزُ عَنْ شُكْرِ اِتِّسَاعِ إِحْسَانِكُمْ إِلَيَّ فِي اِنْتِخَابِيّ عُضْوًا عَامِلًا فِي مَجْمَعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الأُرْدُنِّيِّ، وَسَيَبْقَى لِسَانِي عَلَى مَرِّ الأَيَّامِ يَلْهَجُ بِالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ عَلَى مَكَارِمُكُمْ الثّرَّة، وَخِلَالكُمْ الحَمِيدَة.
أيها الأَسَاتِذَةُ الكِرَامُ،
إِنَّنِي أُدْرِكُ أَنَّكُمْ مِنْ أَوَّلِيِّ العَزْمِ الصَّادِقِ فِي خِدْمَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَآدَابِهَا، وَالِارْتِقَاءِ بِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْكُمْ جَمِيعًا مِنْ القَابِضِينَ عَلَى جَمْرِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْفَعُ لُغَتَنَا التِي تُمَثِّلُ هُوِيَّةَ الأُمَّةِ الثَّقَافِيَّةَ، وَآخَر حُصُونِهَا التِي لا تَزَالُ عَصِيَّةً عَلَى الانْحِنَاءِ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ التَّحَدِّيَاتِ العَاتِيَات التِي تُوَاجِهُهَا، فِي زَمَنٍ تَنْعَى فِيهِ حَظَّهَا بَيْنَ أَهْلِهَا الذِينَ يَنْشَغِلُونَ بِالزَّبْدِ عَنْهَا. وَإِنَّنِي لعَلَى ثِقَةٍ كَبِيرَةٍ فِي أَنَّ مَا حَقَّقَهُ المَجْمَعُ عَلَى أَيْدِيكُمْ مِنْ إِنْجَازَاتٍ عَظِيمَةٍ مُخْتَلِفَةٍ مَشْهُودَةٍ فِي مَسَالِكِ الأُمَّةِ وَدُرُوبِهَا العِلْمِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ، إِنَّمَا هِيَ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاس، وَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ؛ وَيَزِيدُ مِنْ اِعْتِزَازِ الأُمَّةِ بِهُوِيَّتِهَا، وَيُسْهِمُ فِي تَحْقِيقِ مُسْتَقْبَلٍ أَفضَلَ لِلْعَرَبِيَّةِ فِي ظِلِّ الصِّرَاعِ الحَضَارِيِّ اللُّغَوِيِّ المُحْتَدِمِ. وَإِنِّي لِأَرْجُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَكُونَ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّكُمْ جَمِيعًا، وَأَنْ يَمُدَّنِيَ بِالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ لِأَكُونَ قَادِرًا عَلَى المُشَارَكَةِ مَعَكُمْ وَبِكَمْ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الأَعْمَالِ الطَّيِّبَةِ فِي خِدْمَةِ لُغَتِنَا الشَّرِيفَةِ.
أَيُّهَا العُلَمَاءُ الأَفَاضِل،
أَرْجُو أَنْ تَسْمَحُوا لِي بِالْحَدِيثِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَنْ أَحَدِ المَوْضُوعَاتِ التِي اِنْشَغَلْتُ بِهَا خِلَال العَامَيْنِ الأَخِيرَيْنِ، ويُمْكِنُ أَنْ نَصْطَلِحَ عَلَى تَسْمِيَتِها بِالتَّرْجَمَةِ الفَنِّيَّةِ، وهِيَ عَمَلِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ تُسْهِمُ فِي تَوْسِيعِ مَيَادِينِ التَّرْجَمَةِ لِتَتَجَاوَزَ مَجَالَ التَّرْجَمَةِ اللُّغَوِيَّةِ المُتَعَارَفِ عَلَيْهَا.
وَسَأُرَكِّزُ اليَوْمَ عَلَى تَرْجَمَةِ الفَنِّ التَّشْكِيلِيِّ إلَى خِطَابٍ لُغَويٍّ مِنْ خِلَالِ التَّطْبِيقِ عَلَى عَدَدٍ مِنْ لَوْحَاتِ الفَنَّانِ الفَرَنْسِيِّ المُسْتَشْرِقِ جَانْ لِيُونْ جِيرُومْ عَنْ الشَّرْقِ، بَعْد أَنْ كُنْتُ قَدْ طَبَّقَتُ ذَلِكَ عَلَى عَدَدٍ مِنْ المُنَمْنَمَاتِ الأَنْدَلُسِيَّةِ فِي دِراسَتِي كِتَابَ بَيَاضٍ وَرِيَاضٍ.
أَيُّهَا الحُضُورُ الكَرِيمُ،
كَمَا تَعْلَمُون يُعَدُّ الاسْتِشْرَاقُ الفَنِّيُّ ظَاهِرَةً فَنِّيَّةً أُورُوبِّيَّةً تَمَثَّلَتْ فِي اللَّوْحَاتِ الفَنِّيَّةِ المُثِيرَةِ وَالْغَريبَةِ وَالْمُدْهِشَةِ عَنْ الشَّرقِ، التي أَنْتَجَهَا تَيَّارٌ مِن الفَنَّانِينَ الْأُورُوبِّيِّينَ المستشرقين، فِي القَرْنِ التَّاسِع عَشَرَ وَأَوَائِلِ القَرْنِ العِشْرِينَ، وتُعَبِّرُ هَذِهِ اللَّوْحَاتُ فِي جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْهَا عَنْ اِفْتِتَانِهم بِسِحْرِ الشَّرْقِ وَبِيئَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَعَادَاتِ أَهْلِهِ وَأَعْرَافِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَفُنُونِهِم. ويَنْطَوِي هَذَا الافْتِتَانُ وَالْإِعْجَابُ في بعض ألوانه عَلَى عُنْصُرِيَّةٍ وَتَعَالٍ كَبِيرَيْنِ، ذَلِكَ أنَّ الشَّرْقَ كَانَ يُمَثِّلُ فِي ذِهْنِ المُسْتَشْرِقِ تِلْكَ الْمِنْطَقَةَ التِي تُعَانِي حَالَةً مِنْ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ وَالتَّخَلُّفِ التي أَعْقَبَتْ نَهْضَتَهُ الفِكْرِيَّةَ، وتَحْتَاجُ إِلَى مُسْتَثْمِرٍ أُورُوبيٍّ لَدَيْهِ الخِبْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالتِّقنِيَّةُ.
ولَا تُقَدِّمُ اللَّوْحَةُ الفَنِّيَّةُ الاسْتِشْراقيَّةُ صُوَرِةَ الشَّرْقِيِّ كَمَا هِيَ، بَلْ تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى إِسْقَاطِ رُؤْيَةِ الفَنَّانِ الغَرْبِيِّ الذَّاتِيَّةِ عَلَى الشَّرْقِيِّ العَرَبِيِّ المُسْلِمِ، وَهِيَ مُسْتَمَدَّةٌ أَسَاسًا مِنْ ثَلَاثَةِ عَنَاصِرَ أَسَاسِيَّةٍ مُتَوَاشِجَةٍ، هي: الخَلْفِيَّةُ الثَّقَافِيَّةُ لِلْفَنَّانِ الأُورُوبِّيِّ المُسْتَنِدَةُ إِلَى المَرْجِعِيَّةِ الأُورُوبِّيَّةِ، وتَجْرِبَتُه فِي السَّفَرِ إِلَى بِلَادِ المَشْرِقِ وَالتَّنَقُّل بَيْنَ أَمَاكِنِهِ المُخْتَلِفَةِ وَتَفَاعُلِهِ مَعَهَا، ومقدرته الفَنِّيَّةُ فِي تَقْدِيمِ تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ خِلَالِ مَوْقِعِهِ وَزَاوِيَةِ رُؤْيَتِهِ.
ولما كَانَ الفَنَّانُونَ المُسْتَشْرِقُونَ قَدْ تَفَاوَتُوا فِي إخْرَاجِ لَوْحَاتِهِم الفَنِّيَّةِ؛ فقد اِخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أيْضًا فِي طَبِيعَةِ صُورَةِ الشَّرْقِ التِي قَدَّمُوهَا فِي لَوْحَاتِهِمْ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ مُنْصِفًا وَكَانَ بَعْضُهُم الآخَرُ مُتَحَامِلاً، وَكَانَ الوَصْفُ أَدَاةً طَيِّعَةً بَيْنَ أَيْدِي بَعْضِهِمْ يَسْتَعِينُونَ بِهَا لِاطلَاعِ المُشَاهِدِ الأُورُوبِّيِّ عَلَى مَا زَارُوا مِنْ أَمَاكِنَ وَمَا انْطَبَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مَشَاهِدَ، أَخْرَجُوهَا مِنْ مُخَيَّلَتِهِم وَخَلَّدُوهَا بِرِيشتهِم الفَنِّيَّةِ الرَّقِيقَةِ.
وَشَكَّلتْ لَوْحَاتُ المُسْتَشْرِقِينَ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ خِطَابَاتٍ وَأَعْمَالاً إِبْدَاعِيَّةً تَعْكِسُ صُورَةَ (الشَّرْقِيِّ) الثَّقَافِيَّة فِي تَجَلِّيَاتِهَا المُخْتَلِفَةِ فِي مِرْآةِ الفَنَّانِ المُسْتَشْرِقِ الأُورُوبِّيِّ، ويَسْتَدْعِي ذَلِكَ تَوْظِيفَ آلِيَّاتٍ مُنَاسِبَةٍ وطَرائِقَ مُحَدَّدةٍ لِتَرْجَمَةِ الأَفْكَارِ التِي رَسَمَهَا هَؤلاِء الفَنَّانُونَ فِي لَوْحَاتِهِمْ بِاسْتِخْدَامِ لُغَةِ الفَنِّ المَرْئِيِّ (اللُّغَةِ البَصَرِيَّةِ)؛ لِأنَّهَا تُشَكِّلُ خِطَاباتٍ مَرْئِيًّةً. وَلَا شَك فِي أَنَّ اِخْتِلَافَ الألسُنِ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ آخَرَ يُتِيحُ لَنَا مَا يُمْكِنُ أَنْ نَصْطَلِحَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالتَّرْجَمَةِ الفَنِّيَّةِ التِي تَسْمَحُ بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ فَنٍّ إِلَى آخَرَ. وَهِيَ عَمَلِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ تُسْهِمُ فِي تَوْسِيعِ مَيَادِينِ التَّرْجَمَةِ لِتَتَجَاوَزَ مَجَالَ التَّرْجَمَةِ اللُّغَوِيَّةِ المُتَعَارَفِ عَلَيْهَا التِي تَقُومُ عَلَى بِنْيَةٍ ثُنَائِيَّةٍ تَتَمَثَّلُ فِي النَّصِّ الأَصْلِيِّ وَالنَّصِّ المُحَوَّلِ إِلَيْهِ أَوْ النَّصِّ الهَدَفِ.
إِنَّ تَرْجَمَةَ الفَنِّ التَّشْكِيلِيِّ إلَى خِطَابٍ لُغَويٍّ تَقُومُ عَلَى بِنْيَةٍ ثُلَاثِيَّةٍ تَتَمَثَّلُ فِي: النَّصِّ الأَصْلِيِّ الذِي هو وَاقِعُ الشَّرْقِ الحَقِيقِيُّ، وَالنَّصِّ المُحَوَّلِ إِلَيْهِ أَي اللَّوْحَةِ التَّشْكِيلِيَّةِ الاسْتِشْرَاقِيَّةِ التِي تُشَكِّلُ عَمَلًا فَنِّيًّا مُشَبَّعًا بِالْأَفْكَارِ وَالرُّؤَى وَالدَّلَالَاتِ، وَيُتِيحُ لِلْمُتَلَقِّي أَوْ المُتَرْجِمِ إِمْكَانَاتِ تَأْوِيلٍ كَثِيرَةً، فَهُو يحْمِلُ بَيْنَ عَنَاصِرِهِ وَألوَانِهِ وَظِلَالِهِ رَسَائِلَ فِي قَالَبٍ جَمَالِيٍّ؛ وَالنَّصِّ الجَدِيدِ الذِي يَتَمَثَّلُ فِي القِرَاءَةِ التَّأْوِيلِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ وَمَرْجِعِيَّاتٍ ثَقَافِيَّةٍ وَفَنِّيَّةٍ كَثِيرَةٍ لَدَى المُتَلَقِّي المُتَرْجِمِ، ويُحَقِّقُ ذلك لَوْنًا لافتًا مِنْ ألوَانِ التَّرْجَمَةِ بَعِيدًا عَن الجَوَانِبِ الجَمَالِيَّةِ لِلَّوْحَةِ الفَنِّيَّةِ مِنْ جِهَةٍ، وَيَقُودُ إِلَى اِسْتِخْدَامِ التَّرْجَمَةِ وَسِيلَةً لِلتَّلَاقُحِ بَيْنَ الفُنُونِ المَرْئِيَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ، ويُسْهِمُ فِي خَلْقِ نُصُوصٍ جَدِيدَةٍ ثَرِيَّةٍ فِي مَعْنَاهَا وَدَلَالَتِهَا وَبُعْدِهَا الإِنْسَانِيِّ، مِنْ جِهَةٍ ثَالثةٍ.
وَلَا شَك فِي أَنَّ هذه التََّرْجَمَةَ الفَنِّيَّة تَسْتَدْعِي إِدْرَاكَ الحَالَةِ الثَّقَافِيَّةِ وَالْخَلْفِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ لِلْفَنَّانِ وَلِلْعَصْرِ الذِي رُسِمَتْ فِيهِ، وقِرَاءةَ العُنْوَانِ الذِي مَنَحَهُ الفَنَّانُ لِلَوْحَتِهِ، بِوصفهِ مِفْتَاحًا أَوْ عَتَبَةً نَصِّيَّةً لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهِا قَبْلَ قِرَاءَةِ اللَّوْحَةِ وَتَأْوِيلِهَا حَتَّى تَكُونَ قِرَاءَتُهَا أَكْثَرَ ثَرَاءً وَأَقْرَبَ إِلَى المَدْلُولَاتِ المُرَاد إِيصَالُهَا.
فَالفَنُّ لَيْسَ مُجَرَّدَ إِبْدَاعِ صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ وَانْفِتَاحٍ عَلَى فَضَاءاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، إنَّه عَمَلٌ إِبْدَاعِيٌّ يَتَأَثَّرُ بِالسِّيَاقَاتِ التِي نَشَأَ فِيهَا وَيَتَطَبَّعُ بِنَتَائِجِهَا الفِكْرِيَّةِ؛ إنه جُزْء مِنْهَا فَهُوَ فِكْرٌ مَرْئِيٌّ، تَشَرَّبَ جَمَالِيَّةَ الفَنِّ؛ لِهَذَا فَإِنَّ عَلَى المُتَلَقِّي أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا خَلفَ اللَّوْحَةِ الفَنِّيَّةِ مِنْ دَلَالَاتٍ وَمَعَانٍ، وَأَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ اللَّوْحَةِ خِطَاباً لُغَوِيًّا، فَالْفَنَّانُ يَسْتَطِيعُ بِلَوْحَتِهِ أَنْ يَرْسمَ أَفْكَارَهُ، وَأَنْ يَمْنَحَهَا لَوْنًا، وَيَهَبَهَا حَيَاةً أُخْرَى، وَشَيْئًا مِنْ الخُلُودِ.
أَيُّهَا الحُضُورُ الكَرِيمُ،
لقَدْ تَبَنَّيْتُ في دِراسَاتِي مَنْهَجَ التَّرْجَمَةِ الفَنِّيَّةِ مِنْ الخِطَابِ التَّشْكِيلِيِّ إِلَى الخِطَابِ اللُّغَوِيِّ مِنْ خِلَالِ التَّطْبِيقِ عَلَى عَدَدٍ مِنْ لَوْحَاتِ الفَنَّانِ الفَرَنْسِيِّ المُسْتَشْرِقِ جَانْ لِيُون جِيرُوم الذِي يُعَدُّ أَحَدَ أَبْرَزِ المُسْتَشْرِقِينَ الذِينَ قَدِمُوا إِلَى الشَّرْقِ العَرَبِيِّ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِن القَرْنِ التَّاسِع عَشَر، فَقَدْ جَابَ أَرْجَاءَ الشَّرْقِ، مِثْلَ مِصْرَ وَبِلَادِ الشَّامِ وَتُرْكِيَا، وَطَافَ بِالْوَاحَاتِ ومرَّ بِالْقُرَى الصَّغِيرَةِ وأقام فِي المُدُنِ الكَبِيرَةِ مثل القاهرة وَدِمَشقَ والقدس وَغَيْرِهَا؛ فَدَوَّن فِي مِئَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ لَوْحَةً فَنِّيَّةً العَادَاتِ وَالتَّقَالِيدَ، ورَسَمَ المَسَاجِدَ وَالْمَآذِنَ وَالأَسْوَاقَ، وَصَوَّرَ مَشَاهِدَ الحَيَاةِ اليَوْمِيَّة، وَعناصرَ البِيئَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وكان إدوارد سعيد قد اخْتارَ لوحَتَهُ الْمُعَنْوَنةَ بـ(مُلَاعِب الأفَاعِي) لِتَكُونَ لوحَةَ غِلافِ كِتابِهِ الاستشراق في طبعته الأولى.
وكان جيروم قد وَاجَهَ صُعُوبَةً كَبِيرَةً فِي أَمْرَيْنِ هُمَا: رَسْمُ المَرْأَةِ الشَّرْقِيَّةِ وَمُجْرَيَاتِ حَيَاتِهَا الخَاصَّة، وَطَبِيعَة مَا كَانَ يُمَارَسُ دَاخِلَ الْأَمَاكِنِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْمُصَلّيَاتِ وَالزَّوَايَا وَالْأَضْرِحَةِ مِنْ شَعَائِرَ وَطُقُوسٍ، لقَدْ تَضَمَّنَتْ بَعْضُ لَوْحَاتِه مشَاهِدَ تُوحِي بِعَجَائِبِيَّةِ مُمَارَسَةِ شَعَائِرِ العِبَادَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَغَرَائِبِيَّتِهَا، وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّتِهَا وَعِصْيَانِهَا عَلَى الفَهْمِ. كَمَا يتَجَلَّى فِي لَوْحَةِ (الدَّرَاوِيش الدَّوَّارِين)، التِي تُقَدِّمُ مَجْمُوعَةً مِنْ دَرَاوِيشِ المَوْلَوِيَّةِ الرِّفَاعِيَّةِ فِي حَضْرَةٍ فِي جَامِعِ الرِّفَاعِي الذِي يَقَعُ فِي المَقْبَرَةِ الشَّرْقِيَّةِ فِي القَاهِرَةِ، فَاللَّوْحَةُ َتَتَضَمَّنُ أُنَاسًا يَجْتَمِعُونَ بِمَلَابِسِهِمْ البَالِيَةِ الغَرِيبَةِ، يُطَوِّحُونَ بِرُؤُوسِهِمْ وَيَتَحَلَّقُونَ حَوْلَ رَجُلٍ يَدُورُ بِثَوْبِهِ العَرِيضِ، مَجْذُوبينَ، مَمْسُوسِينَ، لَاهِينَ، بَعِيدِينَ عَن الحَيَاةِ المَادِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ التِي تُثْقِلُ الغَرْبِيَّ. وَقَدْ أَغْنَى جِيرُومْ التَّفَاصِيلَ فِي هَذِهِ اللَّوْحَةِ حَتَّى يُؤَكِّدَ عَلَى هَذَا التَّمَايُزِ بَيْنَ الشَّرْقِ الإِسْلَامِيِّ وَالْغَرْبِ المَسِيحِيِّ فِي إِقَامَةِ الشَّعَائِرِ وَالِاحْتِفَالَاتِ الدِّينِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ. وَلَعَلَّ مَا يُؤَكِّدُ هَذِهِ الغَرَابَةَ هُوَ تَزْيِينُهُ لِمَكَانِ العِبَادَةِ بِالْأَسْلِحَةِ مثل البَنَادِقِ وَالسُّيُوفِ، وَالْفُؤُوسِ، حَتَّى يَبْدُوَ الشَّرْقُ مَكَانَ المُتَنَاقِضَاتِ؛ حِينَ يَجْتَمِعُ السِّلَاحُ مَعَ العِبَادَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَأَنَّ الدِّينَ وَالْعُنْفَ جُزْءَانِ يُكْمِلُ بَعْضُهُمَا بَعْضًا فِي الشَّرْقِ. أَمَّا الأَدَوَاتُ المُوسِيقِيَّةُ مِنْ دُفُوفٍ وَرَبَابَةٍ وَنَايٍ وَغَيْرِهَا فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنْ تِلْكَ المُسْتَخْدَمَةِ فِي تَأْدِيَةِ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ فِي الكَنَائِسِ الغَرْبِيَّةِ. إِنَّ طَرِيقَةَ العِبَادَةِ فِي الشَّرْقِ -كَمَا تَقُولُ اللَّوْحَةُ- التِي تَقُومُ عَلَى شَبُوبٍ عَاطِفِيٍّ نَحْوَ الصُّوفِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَنَحْوَ الأَسْرَارِ وَاللَّامَعَقُولِيَّةِ تَجْعَلُهَا عَصِيَّةً عَلَى الفَهْمِ، وَفِي ذَلِكَ سِرُّ فِتْنَتِهَا وَغَرَابَتِهَا، وَهِيَ بِذَلِكَ تُخَالِفُ طَبِيعَةَ عِبَادَةِ الغَرْبِ الذِي سَيْطَرَتْ عَلَيْهِ المَادِّيَّةُ.
وَيُؤَكِّدُ جِيرُوم فِي بَعْضِ لَوْحَاتِهِ ذاتِ الصلة بالمُمَارَسَاتِ الدِّيْنيةَِّ عَلَى مَلَامِحِ الْجُمُودِ وَالتَّخَلُّفِ وَالْجَهْلِ وَعَدَمِ العَقْلَانِيَّةِ التِي تُسَيْطِرُ عَلَى ذِهْنِيَّةِ النَّاسِ فِي الشَّرْقِ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ بِالخُرَافَاتِ وَالْأَسَاطِيرِ وَالتَّبَرُّكِ بِالْأَوْلِيَاءِ. واتَّخَذَ جِيرُوم مِنْ عَالَمِ النِّسَاءِ أَوْ الحَرِيمِ مَدْخَلًا مَوْضُوعِيًّا لِلْوُلُوجِ إِلَى عَالَمِ الشَّرْقِ وَاسْتِكْشَافِ عَوَالِمِهِ الغَامِضَةِ، فَتَكَرَّرَتْ فِي أَعْمَالِهِ صُوَرُ النِّسَاءِ الشَّرْقِيَّاتِ غَيْرِ الْمُحْتَشِماتِ فِي أسْوَاقِ الجَوَارِي، وَفِي الحَمَّامَاتِ العَامَّةِ، ومَجَالِسِ الرَّقْصِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَقَاهِي وَغَيْرِهَا، وَغَدَتْ لَدَيْهِ نَمَطًا مُتَكَرِّرًا لِتَرْسِيخِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْتي رَسَمَهَا الْغَربُ في مُخَيِّلتِهِ للْمَرْأَةِ الْشَرْقِيَّةُ التِي تَبْدُو فِيهَا كَائِنًا مُنْعَزِلًا مَحْدُود المَفَاهِيمِ لَا يَحْمِلُ سِوَى الإِغْرَاءِ وَالْإِمْتَاعِ وَالْغوَايَةِ.
واتَّخَذ جِيرُوم تَصْوِيرَ مَشَاهِدِ الرَّقْصِ الشَّرْقِيِّ وَسِيلَةً لِلتَّعْبِيرِ عَن الرُّؤْيَةِ الغَرْبِيَّةِ لِصِفَاتِ الشَّرْقِ المُتَهَتِّكِ الذِي يُمَارِسُ أَبْنَاؤُهُ أَعْمَالًا غَيْرَ مُحْتَشِمَةٍ، وَإبْرَازِ اِخْتِلَافِ هَذَا الرَّقْصِ الدِّرَامِيِّ الَّذيْ يَهْدِفُ بِالدَّرَجَةِ الأُولَى إِلَى إِرْضَاءِ المُشَاهِدِ الذِي لَا يُشَارِكُ فِي الرَّقْصِ، بَلْ يَجْلِسُ لِيُمْعِنَ النَّظَرَ فِي المَرْأَةِ الرَّاقِصَةِ التِي تَبْدُو الوَحِيدَةَ التِي تَرْقُصُ وَمُعْظَمُ مَنْ حَولَهَا يُشَاهِدُونَهَا وَيَتَأَمَّلُونَ حَرَكَاتِهَا المُثِيرَةَ، وَهُو يَخْتَلِفُ عَنْ الرَّقْصِ الغَرْبِيِّ الَّذي يَبْدو نَوْعًا مِنْ النَّشَاطِ الاجْتِمَاعِيِّ.
وَلَمَّا كَانَ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَى جِيرُوم تَصْوِيرُ الرَّقْصِ الشَّعْبِيِّ الحَقِيقِيِّ المُحْتَشِمِ عِنْدَ المَرْأَةِ، بِحُكْمِ تَقَالِيدِ المُجْتَمَعِ الْشَرْقِيِّ وأعْرَافِهِ، فَقَدْ رَاحَ يَبْحَثُ عَنْ نَمَاذِجَ بَدِيلَةٍ فِي “المَقَاهِي وَالْحَفْلَاتِ الخَاصَّةِ التِي كَانَ يُدْعَى إِلَيْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ”، وَتَرْجَمَ مِنْ خِلَالِهِا مَا أَمْلَتْهُ إِيمَاءَاتُ بَنَاتِ الهَوَى، وَقَدَّمَ صُوَرًا عَنْهُ لَا تَخْلُو مِنْ المَعْنَى الجِنْسِيِّ الذِي اقْتَرَنَ بِالْخَلَاعَةِ فِي الأَذْهَانِ، وَهي فِكْرَةٌ كَانَتْ قَدْ تَرَسَّخَتْ فِي الخَيَالِ الغَرْبِيِّ، وأصْبَحَتْ شَكْلًا مِنْ الإِغْرَاءِ وَالْإِمْتَاعِ وَالْغوَايَةِ؛ مَا جَعَلَ لَوْحَاتِ الرَّاقِصاتِ تُعرِّضُ صُورَةَ اِمْرَأَةِ الآخَر لِلتَّحْرِيفِ، بُغْيَةَ تَقْدِيمِ صُورَةٍ لَافِتَةٍ لِلْغَرْبِيِّينَ عَلَى حِسَابِ تَزْيِيفِ الْوَاقِعِ وَتَشْوِيهِ العَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ.
وتقدم أَغْلَبُ لوْحَاتِ جِيرُوم المَرْأَةَ الشَّرْقِيَّةَ مُتَحَرِّرَةً مِن القُيُودِ الأَخْلَاقِيَّةِ، مِنْ خِلَالِ تَصْوِيرِهَا عَارِيَةً، وَتَجْرِيدِهَا مِن اللِّبَاسِ الذِي يَسْتُرُهَا أَوْ بِلِبَاسٍ يَحْمِلُ إِيحَاءَاتٍ غير مهذبة، إِضَافَةً إِلَى أَنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ يَظْهَرْنَ فِي مَلَامِحَ غَيْرِ شَرْقِيَّةٍ؛ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ جِيرُوم لَجَأَ إِلَى بَدَائِلَ أُخْرَى لِتَصْوِيرِ المَرْأَةِ الشَّرْقِيَّةِ، فَاعْتَمَدَ عَلَى نَمَاذِجَ نِسَائِيَّةٍ غَرْبِيَّةٍ أَوْ نَمَاذِجَ مُزَيَّفَةٍ، وَصوَّرَهَا فِي مَرْسَمِهِ فِي بَارِيس، وَقَدْ أَسْهَبَ فِي اِسْتِخْدَامِ هَذِهِ الحِيلَةِ الفَنِّيَّةِ فِي عَدَدٍ مِنْ لَوْحَاتِه.
ويعني ذلك أنَّ تَصْوِيرَ جِيرُوم لِلْحَرِيمِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَانَ تَصْوِيرًا خَيَالِيًّا كَامِنًا فِي ذِهْنِهِ لَا عَلَاقَة لَهُ بِنِسَاءِ الشَّرْقِ الحَقِيقِيِّ، ولَا يَعْكِسُ الحَقَائِقَ وَالوَقَائِعَ. فَهُوَ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ زِيَارَاتِهِ المُتَعَدِّدَةِ لِتُرْكِيَا وَمِصْرَ والْشَامِ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ صُورَةِ الشَّرْقِ الكَامِنِ فِي ذِهْنِهِ، مَا أَطْلَقَ العِنَانَ لِمُخَيِّلَته.
وَبعْدُ، فأنتهي إلَى الْقوْل، إنَّ عَمَلِيَّةَ التَّرْجَمِةِ الْفَنيَّةِ مِنْ الخِطَابِ التَّشْكِيلِيِّ إِلَى الخِطَابِ اللُّغَوِيِّ التي تَبَنّتْهَا هَذِهِ الدِّرَاسَةُ وطّبَّقْتهَا عَلَى نَماذِجَ مُخْتَارَةٍ مِنْ لَوْحَاتِ الفَنَّانِ الفَرَنْسِيِّ جِيرُوم عَن الشَّرْقِ، وتَمَثَّلتْ فِي القِرَاءَةِ التَّأْوِيلِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلَى أُسُسٍ وَمَرْجِعِيَّاتٍ ثَقَافِيَّةٍ وَفَنِّيَّةٍ كَثِيرَةٍ، تُشيرُ إلى أنَّ هَذَا الَّلوْنَ مِنْ الْقِراءَةِ يُوسِّعُ آفاق التَّرْجَمَةِ، وَيَقُودُ إِلَى اسْتِخْدَامِها وَسِيلَةً لِلتَّلَاقُحِ بَيْنَ الفُنُونِ المَرْئِيَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ. كما يُسْهِمُ فِي تَمْكِيْن المُتلَقِّي أَوْ المُتَرْجِمِ من الْكَشْفِ عمَّا يَنْتَابُ بَعْض الأَعْمَالِ الْفَنِّيَّةِ من التَّزْييْفِ والاصْطِنَاعِ مِنْ جِهَةٍ، ويُمَّكِّنه مِنْ إعَادَةِ بِنَاءِ صُورَةِ الْأَنَا الثَّقَافِيَّةِ وِفْقَ التَّصَوُّر الصَّحِيحِ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ.
أيُّها السَّادَةُ الكِرامُ، أشْكُرُكُم عَلى حُسْنِ اسْتِماعِكُم.