ضمن فعاليات معرض عمان الدولي للكتاب في دورته الحادية والعشرين، نظم مجمع اللغة العربية الأردني ندوة حواريةً ثقافية بعنوان “المعجم التاريخي للغة العربية”، أدارها الأمين العام للمجمع الأستاذ الدكتور محمد السعودي، وشارك فيها الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة الأستاذ الدكتور امحمد المستغانمي، والمدير العلمي للمعجم الأستاذ الدكتور مأمون وجيه.
استهل الدكتور السعودي الندوة التي أقيمت صباح اليوم الأحد الرابع من أيلول لعام ٢٠٢٢م، بالشكر لاتحاد الناشرين الأردنيين ولوزارة الثقافة وأمانة عمان، القائمين على المعرض، وأشاد بمبادرة صاحب السّمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي يشرف شخصياً على المعجم التاريخي للغة العربية، الذي أُنجز منه سبعة عشر مجلّداً للحروف الخمسة الأولى من أحرف اللغة العربيّة، وتناول أوجه استخدامات الألفاظ ومصادرها واشتقاقاتها، ولا يزال العمل جارياً عليه بالتعاون مع اتحاد المجامع اللغوية بالقاهرة، وسيصبح هذا العمل المعجميّ الجليل بعد إنجازه قبلةً للمثقفين، والراغبين في تعلم لغة الضّاد في كل العالم.
وفي كلمة عامّة عن العمل المعجمي العربي قال الدكتور المستغانمي إن المُعجم هو ديوانُ ألفاظ الأمّة، وخزّانُ تعابيرها والأنساق اللغوية التي يستعملها أبناؤها، وسِجِلُّ تاريخها؛ إذ من خلال النّظر في معجم أيّ عصر من العصور، يتبيّنُ للباحث الكلمات التي كانت رائجة ذائعة في ذلك العصر، والعبارات التي ألِف أهلُهُ استعمالَها وتوظيفها في كلامهم اليومي، وفي كتاباتهم الوظيفيّة وإبداعاتهم الأدبيّة.
والتأليف المعجميّ المتجدّد دليلٌ على حياة اللغة التي يتناولها، وكلّما ظهرت في أسواق الثقافة معاجمُ جديدةٌ وقواميسُ متنوّعة متخصّصة، دلّ ذلك على حياة تلك اللغة ونموّها وتطوّرها.
وتابع أنه لا يخفى على كل مثقّف أنّ اللّغويين العرب قد قطعوا أشواطاً مُهمّة في التأليف المعجمي في العصور القديمة ابتداء من عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي مروراً بابن دريد وابن فارس وابن منظور والفيروزآبادي والزّبيدي وصولاً إلى التأليف المعجمي المعاصر.
وأضاف أن المعاجم العربيّة القديمة يجمعها، على تفرّقها وتنّوع أغراض إنشائها، أنّها كانت خاضعةً لمقاييس الفصاحة وسُلطة المعياريّة العربيّة التي وضعها جامعو اللغة في تلك الآونة الزاهرة من حياة العربيّة.
وعن مزايا العربيّة وخصائصها قال إنها تمتلك من الخصائص والمميّزات ما يُؤهّلها لتتربّع مكانةً سامية بين اللغات العالمية إن لم تكن أكثرها حظّاً وتهيّؤاً لذلك؛ إذ هي تتمتّع بتقنيات وخصائص عجيبة في التوليد والاشتقاق والمرونة والسَّعة والثّراء وتنوّع الأوزان والصّيغ، والقدرة على الانسجام مع جميع نتائج التكنولوجيا والعلوم الحديثة، فقط يُنتَظر أن تتصدّى الدراسات المعجميّة النظرية للجوانب المهمّة في الحقل المعجمي وإيجاد حلول علميّة تتناسب مع بنية النظام اللغوي العربي، ومن ثَمَّ تنطلق الدراسات التطبيقيّة في الإنتاج المعجمي الذي يخدم المثقف العربي، والقارئ العالمي، وتلبّي حاجيات العصر.
وعن خروج المعجم التاريخي إلى النور محققاً مدققاً وافياً كافياً شافياً وفضلاً عن كونه أول معجم تاريخي للغة العربية، قال الدكتور وجيه إن فيه من المزايا والفوائدِ اللغوية ما لا يعدّ ولا يحصى، أبرزها رصدُ تاريخِ الكلمات العربية بتتبع تاريخِ ميلادِ الألفاظ في أقدم النصوص التي وردت بالنقوش العربية القديمة الجنوبية المكتوبة بالخط المسند، والنقوش الشمالية الثمودية والصفوية، وتَـتَبُّعُ استعمالاتها، وتطور ِدلالاتِـها وتاريخِ ظهورِ الدلالات الجديدة، وما طرأ عليها في جميع العصور.
وتابع أن المعجم رصد ما دخل العربية من الألفاظ الدخيلة والمُـعَرَّبة والمحْدَثة، وتاريخِ دخولِـها في كل عصر، وتنمية اللغة وتوسيعها بالخروج على عصور الاحتجاج الموروثة والاستشهاد بكل نص عربي صحيح في أي عصر من العصور ومن ثم تنوعت شواهد المعجم تنوعاً واسعاً فريداً فهو يستشهد بكلام القدماء والمولدين والمحدثين.
وعن ضرورة إخراج المعجم التاريخي للغة العربية قال المنتدون إن المعجم التاريخي للغة العربية هو ذاكرة الأمّة العربية، وديوانُ ألفاظها وسِجِلُّ أشعارها وأخبارها، وحامل مخرجات ومنتجات أبنائها وبناتها، وهو ضرورة لغويّة وحضاريّة وتاريخية. ضرورة لغويّة لأنّه يؤرّخ لألفاظ العربيّة المستعملة منذ نشأتها الأولى إلى الوقت الحاضر، يُعرّفُ القارئ عن زمن ميلاد الكلمة: متى استعملها العرب، وفي أي بيئة، ومن المستعمل الأوّل لها؟ وفي أيّ سياق جاء استعمالها؟ وضرورة حضاريّة لأنّ التأريخ للكلمة يرصدُ خطَّ سيرها من نشأتها الأولى مُروراً بالعصور التي مرّت بها، والتطوّرات التي صاحبت استعمالها، ومرحلة نشأة المصطلحات، وغير ذلك من الألفاظ التي جادت بها القرائح، وكيّفها المستعملون مع مفرزات الواقع الذي يعيشونه.
وهو ضرورة تاريخية؛ لأنّه يؤرّخ لأحداث الأمّة العربيّة في عصورها الغابرة، ويؤرّخ للمحافل التي أقيمت للشعر، ويُسلّط الأضواء على منتديات العرب ومجامعها، وتجاراتها، وحروبها وغاراتها وأيّامها، والدول التي تحدّثت بها، والعلوم التي دُوّنت بها إلى أن نصل إلى عصر الصحافة والإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي الحديثة.
وأوضح الأساتذة المشاركون في سياق إجابتهم عن أسئلة الدكتور السعودي، في كلمة وجهوهها لعُشّاق العربيّة وأحبّاء لغة الضّاد، بأنّ أهمّية المشروع تأتي من كونه يُؤرّخ لكل كلمة من كلمات اللغة العربيّة ابتداء من عصر النّقوش القديمة التي خلّدها التاريخ على جدران الكهوف والجبال والمغارات في مواضع مختلفة من جزيرة العرب وما حولها، مروراً بالعصر الجاهلي الذي أصبح للشعر فيه محافل وأسواق، وكانت القبيلة تُعنى بشاعرها وتُكنّ له كل توقير وتبجيل لأنّه هو الناطق الرّسمي باسمها، والمدافع عنها في المحافل، والمنافح عن شرفها، والذّائدُ عن حماها، والواصف لأمجادها عند تلاقي الأقران.
وحين يتتبّع القارئ العربي هذا الشأن يجد أنّ الشعر العربيّ في الجاهلية ممتدّ عبر الصحراء الواسعة ابتداء من تخوم تركيا في بلاد الشّام إلى جنوب بلاد اليمن، والباحث يتساءل كيف يستطيع البحث العلميّ والتّحرير المعجمي أن يستقصي كل كلام العرب الذي نطقوا به في جاهليتهم والحالُ أنّ كلّ قبيلة كانت تغصّ بالشعراء المفلقين والخطباء المصاقع؟
ولمّا جاء عصر التدوين، وكثرت العلوم والفنون اللّغوية والأدبيّة والشرعيّة التي تأثّرت بلغة الوحي وروح الإسلام، غصّت المكتبات بالكتب، وانتشرت المؤلفات في العلوم الإسلامية المختلفة كالتفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه والفقه وأصوله والتاريخ الإسلامي وأنواع العلوم الفلسفيّة والعلمية البحتة، والمكتبةُ العربيةُ اليوم في مشارق الأرض ومغاربها حافلةٌ بملايين العناوين في شتى العلوم والفنون.
أضف إلى ذلك ما جادت به قرائح العلماء والأدباء في العصور المتأخّرة إلى يومنا هذا في مختلف الأجناس الأدبية والفروع المعرفية الحديثة التي كتبها أصحابها باللغة العربية والصحافة والإعلام وغيرها لأننا – وهذا هو الفرق بيننا وبين غيرنا – نُؤرّخ لجميع الأحقاب والفترات الزمنية من الجاهلية إلى العصر الحديث، أي لمدة تزيد على سبعة عشر قرناً من حياة اللغة، ونرصدُ التّطور اللغوي للألفاظ في الأعصر التي نؤرّخ للفظ فيها.
وفي معرض الإجابة عن لماذا تأخّر العرب في إنجاز معجمهم التاريخي؟ وما أهم التّحدّيات التي واجهت صناعة المعجم التاريخي؟ قالوا إنه لا يوجد مشروع استقطب اهتمام اللغويين، ولفتَ انتباهَ عشّاق لغة الضاد كما لفتهم مشروع المعجم التاريخي للغة العربية؛ ذلك لأنّ عدداً من اللغات العالمية قد أنجزت معجمها التاريخي خصوصاً ما يتعلق باللغات المتفرّعة عن اللاتينية الأمّ مثل الفرنسية والإنجليزية ومثيلاتها، وظلّ المشروع العربي يترنّح بين عوائق ضبابية التّخطيط، ومزالق ضخامة المشروع، وعوائق فداحة التّكاليف المادّيّة. ولا يخفى أنّ الذين أرّخوا للغاتهم مثل الإنجليز والفرنسيّين والألمان والسويديّين وغيرهم، في الحقيقة أرّخوا للغاتهم التي هي حديثة المولد بالنسبة للغة العربيّة التي هي ضاربة الجذور في أعماق التّاريخ من لدن العرب العدنانيين الذين ينحدرون من أرومة إسماعيل عليه السلام إلى عصرنا الحاضر.
وتحدث الأساتذة عن ثلاثة تحدّيات كبرى:
التّحدّي الأوّل: ضخامة التراث العربي: ضخامة الموروث اللغوي لدى العرب شِعراً ونثراً وعلوماً وفنوناً هي العقبة الأولى التي تعثّر من أجلها المشروع عقوداً من الزمن ابتداء من أيام المستشرق الألماني فيشر الذي تأثّر بما قام به الألمان من جهود جبّارة لخدمة تاريخ لغتهم، وبدأ في البحث والعمل فعليّاً، وأنجز كثيراً من البطاقات المعجميّة لعدد من الجذور من حرف الهمزة، وعرَضَ المشروع وطريقتَه في إنجازه على مجمع اللغة العربية في القاهرة الذي رحّب أعضاؤه بالموضوع وصاحبِه إلا أن المنيّة اخترمته وهو في بداياته الأولى، وحَسْبُه أنه شرع في الخطوات الأولى.
ثمّ تلت ذلك محاولاتٌ ومحاولات، وحالت دون تحقيق المشروع عقباتٌ وعقبات، إلى أن قيّض الله الحكيم العليم لهذا المشروع، المثقّف المؤرّخ، والكاتب المؤلّف، الأديب الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة حفظه الله، فبعث المشروع من سُبات، وأحياه من موات، وأيقظه من همود، وحرّكه من جمود، وأسّس مجمع اللغة العربية بالشارقة، وأوكل إليه تنفيذ المشروع بالتّعاون مع علماء اتّحاد المجامع اللغوية العلمية العربية بالقاهرة وبعض المجامع اللغوية العربية.
التحدي الثاني: التحدّي التّكنولوجي: لم يكن من السهولة أبداً البحث في التراث العربي الكبير، وهذا ما حال دون إنجاز المعجم التاريخي في العقود الماضية، إلى أن جاء عصر الفتح الإلكتروني وعصر الازدهار الرّقمي الذي ذلّل كثيراً من العقبات البحثيّة، حيث أنشئت مدوّنة لغوية محوسبة تحتوي على أكثر من مليار كلمة، تتمتّع بجميع خصائص المعالجة الحاسوبيّة وفق المعطيات الحديثة في تكنولوجيا المعلومات، وأيضاً تمّ إنشاء منصّة رقميّة حاملة للمشروع يفيد منها المحرّرون المعجميّون في بحثهم العلمي وفق منهج التحرير المعجمي الذي أقرّه المجلس العلمي للاتّحاد.
التحدي الثالث: جمع شمل الكلمة العربيّة: لا يخفى على المثقف العربي أنّ الجهود والأنشطة اللغوية والعلمية في دولنا العربية كثيرة ومتنوعة، ولكن الذي يحول دون بروزها هو شتات الشّمل العربيّ، وعدم وجود التنسيق اللازم الذي من شأنه أن يقتصد جهود العلماء والمبدعين، وقد وفقّنا الله سبحانه في هذه الناحية إلى تنسيق جهود المجامع اللغوية العربيّة وتوحيد كلمتها في الشارقة ومصر والأردن وسوريا والجزائر وتونس والسودان وموريتانيا والمملكة السعودية وليبيا، وقد اصطفى القائمون على المشروع كوكبة من اللغويين في العالم العربي والإسلامي، وقد أشرفت اللجنتان العلمية والتنفيذية على تدريب العاملين في المشروع في دورات علمية مكثّفة احتضنتها المجامع اللغوية في فترات متتالية، والحمد لله تيسّرت الطريق وتمهّدت، والتّحرير المعجمي الآن قائم، والجهود تترى، والله الهادي إلى سواء الصراط.
التحدي الرابع: التّكلفة المادّيّة الكبيرة للمشروع: تحسنُ الإشارة أيضاً إلى أنّ تكاليف المشروع المالية كبيرة، وكانت عائقاً شديداً يحول دون الشروع العملي في المشروع، إلى أن قيّض الله سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي لرعاية المشروع.
وسموّه يشرف على خطط التنفيذ إشرافاً مباشراً، ويتابع أعمال اللجان حاثّاً ومُوجّهاً وناصحاً ومُذلّلاً للعوائق وممهّداً للسّبل. وفي هذا الإطار تقوم اللجنة التنفيذية التي يحتضنها مجمع اللغة العربية بالشارقة بجهود طيّبة وخطوات حثيثة لتسريع الإنجاز بالتنسيق مع اللجنة العلمية في اتحاد المجامع.
وليس المشروع الآن ضرباً من الظنّون أو نسجًا من الأوهام أو أضغاثاً من الأحلام، وإنّما هو واقع مشهود، وها هي ذي أمّة العرب والمسلمين، ومن ورائهم أمم أخرى شهدت في تشرين الثاني ٢٠٢١ ميلاد سبعة عشر جزءاً من المعجم التاريخي، وقد غطّت خمسة الأحرف الأولى، وستسعد الأمة العربيّة والأمة الإسلامية بشهود فتح جديد وعدد من المجلدات في المعرض الدولي للكتاب بالشارقة في تشرين الثاني في هذا العام إن شاء الله تعالى، والعمل جار، والتّحرير مستمرّ، والمراجعات تترى، ومستقبل العربيّة واعد يبشّر جميع محبّيها وعاشقيها بكل خير.